القاهرة - ياسر ابراهيم - الاثنين 4 نوفمبر 2024 03:43 مساءً - هكذا هي رحلة الإنسان، محطات من المتعة والعذاب، مزيج مدهش مفعم بتناقضات الحياة، ما نلبث أن نولد فنحيا ونلهو ونمرح ثم نتألم حتى نتوارى خلف ستائر الأحزان، ينهشنا الفقد ورحيل الأحباب، فيقتطع جزءاً من أرواحنا المتعبة، تنكسر قلوبنا وتتحطم أشلاءً فلا يسمع صراخها بشر، نقاوم عذاباتنا تارة ونستسلم لها تارة أخرى، تموج بنا في حروب نخوضها وأخرى تخوضنا، نبدأ في التلاشي شيئاً فشيئاً، نتآكل من داخلنا، حتى يأتي الوعد الحق فتصعد الروح إلى بارئها، حيث المقام والمستقر.
بعد رحلة طويلة امتدت إلى "90" عامًا، انفرطت حبة نادرة من عقد الزمن الجميل، وانتهى مشوار الفنان الكبير حسن يوسف، أو "الولد الشقي"، كما كان يسميه الجمهور والنقاد في زمن الأبيض والأسود، رحل عن دنيانا تاركاً شريطاً سينمائياً زاخراً بـ"الشقاوة" بمعناها الشعبي، ولكنه في الواقع ختم حياته في "منتهى الشقاوة"، بمعناها اللغوي في المعجم (الشقاء)، ومَن أشقى ممن فقد فلذة كبده في ريعان شبابه؟؟ وكان لا بد لنا أن نستعرض "العد التنازلي" لرحلة الفنان الكبير، فما عاناه في "أواخر العمر" لم يتحمله بشر، حين انكسر قلبه بفاجعة وفاة ولده "عبد الله" غرقاً وهو يلهو مع أصحابه بالساحل الشمالي، في شهر يوليو 2023، لينكب قلبه في نيران الفقد حتى احترقت روحه، وظل لهيبها مشتعلاً لأكثر من "15" شهراً حتى أخمدها الموت، للأبد.
شباب حسن يوسف كان أيضاً "خادعاً" للجمهور، فلا يذكر اسمه حتى تقفز للأذهان صورة "الولد المراوغ لقلوب الفتيات" صاحب الروح المرحة الذي يهوى التنقل بين قصص الحب والغرام، مستغلاً وسامته وخفة ظله، واضعاً بصمة فريدة لـ"الدون جوان" العفوي التلقائي خفيف الدم عبر شاشات السينما، في "عز" جمال النجمات سعاد حسني ونيللي ونادية لطفي وشادية، حتى لو كان "أخو البطل"، فلا تملك إلا أن تقع في هواه الحسناوات، وبرغم هذه الصورة الذهنية المطبوعة، بل المحفورة، في وجدان الملايين، إلا أن واقع هذا الفتى كان مغايرًا بنسبة "180" درجة، ففي عز شبابه ووسامته و"شقاوته"، لم يكن "مقطع السمكة وديلها" في الوسط الفني، وإنما كان "زوجاً" مخلصاً لم يرتع في دنيا "العزوبية" ولو عاماً واحداً وهو النجم الوسيم، فمنذ خطواته الأولى في السينما تزوج الفنانة لبلبة، واستمرت علاقتهما "8" سنوات، حتى انفصلا، قيل وقتها إن قبلة الزوجة للفنان حسين فهمي بفيلم "بنت بديعة" كانت السبب، وفي نفس عام الانفصال، سرعان ما تزوج الفاتنة شمس البارودي، عاش معها أكثر من نصف قرن، ومات بين ذراعيها.
بدأ حياته لاعباً لكرة القدم، بنادي الزمالك، وبعد التحاقه بمعهد الفنون المسرحية طغى الفن على الساحرة المستديرة، وبدأ مسيرة طويلة، حافلة، امتدت لأكثر من "130" فيلمًا، و"30" مسلسلاً تليفزيونياً، وبضعة أعمال إذاعية ومسرحية، تأرجح في بداية التسعينيات نحو منعطف "الاعتزال"، و"التصوف"، وأطلق لحيته، ثم عاوده شغفه الأصيل للفن الحقيقي ذي الرسالة الهادفة، وألقى قنبلة فنية ما زالت مدوية في تاريخ الدراما العربية، بمسلسل "إمام الدعاة"، 2003، ليكون علامة فارقة، وماركة مسجلة باسمه لمسيرة شيخنا الجليل محمد متولي الشعراوي، وراوده الحنين وقتذاك لإعلان الاعتزال، من فوق قمة المجد، ولكن مغريات الفن كانت أقوى، واستكمل مشواره "الدعوي" في الدراما، بمسلسلين عن الإمامين "المراغي"، و"النسائي"، ثم عرج نحو الدراما الاجتماعية، لتنحسر عنه الأضواء، وبعد آلام "الشكوى من الشللية"، يصدمه القدر بوفاة ولده، فيزهد البريق، ويقرر الاعتزال، للأبد.
رحلة حسن يوسف مليئة بالتناقضات، أبرزها بطولته لفيلم نادر بعنوان "ثورة اليمن" في ستينيات القرن الماضي، غيّر خلاله جلده تماماً، وأدى دور الثائر المصري في وجه الطغيان، وتاه هذا الدور في غمرة سيل أدوار الولد الشقي، وكانت فترة نضجه الفني زاخرة بالتجارب المتعددة، حيث اتجه في السبعينيات للإخراج السينمائي، وشاركت زوجته شمس البارودي معظم بطولات أفلامه، كما أخرج واحداً من أهم أفلام "الفساد السياسي"، مطلع الثمانينيات، بعنوان "القطط السمان"، وهو المصطلح الشهير الذي ابتدعته صحيفة "نيويورك تايمز"، ليخوض معارك مع الرقابة، مخرجاً، لأسباب كثيرة.
تاريخ مهم في صفحات السينما، إذ شارك حسن يوسف في "4" أفلام تم تصنيفها ضمن أهم "100" فيلم بالسينما المصرية، هي: "أنا حرة"، و"الخطايا"، و"في بيتنا رجل"، و"أم العروسة"، كما شارك في كلاسيكيات الأبيض والأسود: "الباب المفتوح"، و"زقاق المدق"، و"شفيقة القبطية"، و"التلميذة"، وشارك السندريلا سعاد حسني في بطولة "14" فيلماً، أشهرها "للرجال فقط"، و"الثلاثة يحبونها"، و"الزواج على الطريقة الحديثة"، و"فتاة الاستعراض"، وغيرها، ولكنه لم يسعَ إلى تقديم "أدوار سينمائية جادة وجافة" وإنما انعكست روحه الخفيفة على أدواره الاجتماعية الرومانسية المرحة، كما قدم للتليفزيون العديد من المسلسلات الناجحة، أشهرها "ليالي الحلمية"، و"زينب والعرش"، و"زهرة وأزواجها الخمسة".
خلال فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، خاض «حسن» لعبة السياسة، وتبوأ منصب وكيل حزب الخضر، وراودته رغبة الترشح للبرلمان، ولكنه تراجع في آخر لحظة، وتمنّى أن يجسد ابنه "الفنان الشاب عمر" دوره في مسلسل يجسد سيرة حياته، وبدأ مشروع تسجيل "مذكراته" لتوثيق نصف قرن من الإبداع، ولكنه كان "كسولاً" في الكتابة، على حد تعبيره، تلكأ في كتابتها، فلم ترَ النور، وعلى جانب آخر، كان شجاعاً في الاعتراف بـ"تورطه" في المشاركة بأفلام "غير ذات قيمة"، واصفاً إياها بـ"الركيكة"، ونصح شباب الفنانين بالتروي جيداً قبل الموافقة على أي مشاركة سينمائية ربما يندمون عليها، لاحقاً.
السنوات التسعون كانت خالية من "طيش الشباب" فلم يشرب الكحول، ولم يدخن التبغ، وأوصى بأن تكتب على قبره نفس الآية القرآنية المكتوبة على قبر الشيخ الشعراوي، من سورة الأنبياء: "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
0 تعليق